فصل: التفسير المأُثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فيرد عليهم الحق سبحانه: {بلى} وهي أداة لنفي السابق عليها، وأهل اللغة يقولون: نفي النفي إثبات، إذًا {بلى} تنفي النفي قبلها وهو قولهم: {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38].
فيكون المعنى: بل يبعث الله مَنْ يموت.
{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38].
والوَعْد هو الإخبار بشيء لم يأْتِ زمنه بعد، فإذا جاء وَعْدٌ بحدَث يأتي بَعْد ننظر فيمَنْ وعد: أقادرٌ على إيجاد ما وعد به؟ أم غير قادر؟
فإن كان غيرَ قادر على إنفاذ ما وعد به لأنه لا يضمن جميع الأسباب التي تعينه على إنفاذ وعده، قُلْنا له قُلْ: إنْ شاء الله.. حتى إذا جاء موعد التنفيذ فلم تَفِ بوعدك التمسْنا لك عُذْرًا، وحتى لا تُوصف ساعتها بالكذب، فقد نسبتَ الأمر إلى مشيئة الله.
والحق تبارك وتعالى لا يمنعنا أن نُخطِّط للمستقبل ونعمل كذا ونبني كذا.. خَطِّط كما تحب، واعْدُدْ للمستقبل عِدَته، لكن أردف هذا بقولك: إنْ شاء الله؛ لأنك لا تملك جميع الأسباب التي تمكِّن من عمل ما تريد مستقبلًا، وقد قال الحق تبارك وتعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء الله}.
[الكهف: 23-24].
ونضرب لذلك مثلًا: هَبْ أنك أردتَ أن تذهب غدًا إلى فلان لتكلمه في أمر ما.. هل ضمنت لنفسك أن تعيش لغد؟ وهل ضمنت أن هذا الشخص سيكون موجودًا غدًا؟ وهل ضمنتَ ألا يتغير الداعي الذي تريده؟ وربما توفرت لك هذه الظروف كلها، وعند الذهاب أَلَمَّ بك عائق منعك من الذهاب. إذن: يجب أن نُردف العمل في المستقبل بقولنا: إن شاء الله.
أما إذا كان الوعد من الله تعالى فهو قادر سبحانه على إنفاذ ما يَعِد به؛ لأنه لا قوة تستطيع أن تقفَ أمام مُراده، ولا شيءَ يُعجزه في الأرض ولا في السماء، كان الوعد منه سبحانه: {حقًا} أنْ يُوفّيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 38].
أي: لا يعلمون أن الله قادر على البعث، كما قال تعالى: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].
وقال: {وقالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49].
فقد استبعد الكفار أمر البعث؛ لأنهم لا يتصورون كيف يبعث الله الخلْق من لَدُن آدم عليه السلام حتى تقوم الساعة.، ولكن لِمَ تستبعدون ذلك؟ وقد قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28].
فالأمر ليس مزاولة يجمع الله سبحانه بها جزئيات البشر كل على حدة.. لا.. ليس في الأمر مزاولة أو معالجة تستغرق وقتًا. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
ونضرب لذلك مثلًا ولله المثل الأعلى فنحن نرى مثل هذه الأوامر في عالم البشر عندما يأتي المعلّم أو المدرب الذي يُدرِّب الجنود نراه يعلِّم ويُدرِّب أولًا، ثم إذا ما أراد تطبيق هذه الأوامر فإنه يقف أمام الجنود جميعًا وبكلمة واحدة يقولها يمتثل الجميع، ويقفون على الهيئة المطلوبة، هل أمسك المدرب بكل جندي وأوقفه كما يريد؟! لا.. بل بكلمة واحدة تَمَّ له ما يريد.
وكأن انضباط المأمور وطاعته للأمر هو الأصل، كذلك كل الجزئيات في الكون منضبطة لأمره سبحانه وتعالى.. هي كلمة واحدة بها يتم كل شيء.. فليس في الأمر مُعَالجة، لأن المعالجة أنْ يُباشر الفاعل بجزئيات قدرته جزئيات الكائن، وليس البعث هكذا.. بل بالأمر الانضباطي: كن.
ولذلك يقول تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 38].
نقول: الحمد لله أن هناك قليلًا من الناس يعلمون أمر البعث ويؤمنون به.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي}.
فمعنى قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [النحل: 39]. أي: من أمر البعث؛ لأن القضية لا تستقيم بدون البعث والجزاء؛ ولذلك كنت في جدالي للشيوعيين أقول لهم: لقد أدركتم رأسماليين شرسين ومفترين، شربوا دم الناس وعملوا كذا وكذا.. فماذا فعلتُم بهم؟ يقولون: فعلنا بهم كيت وكيت، فقلت: ومن قبل وجود الشيوعية سنة 1917، ألم يكن هناك ظلمة مثل هؤلاء؟ قالوا: بلى.
قلت: إذن من مصلحتكم أن يوجد بعث وحساب وعقاب لا يفلت منه هؤلاء الذين سبقوكم، ولم تستطيعوا تعذيبهم.
ثم يأتي فَصْل الخطاب في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} [النحل: 39]. أي: كاذبين في قولهم: {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38].
وذلك علم يقين ومعاينة، ولكن بعد فوات الأوان، فالوقت وقت حساب وجزاء لا ينفع فيه الاعتراف ولا يُجدي التصديق، فالآن يعترفون بأنهم كانوا كاذبين في قَسَمهم: لا يبعث الله مَنْ يموت وبالغوا في الأَيمان وأكَّدوها؛ ولذلك يقول تعالى عنهم في آية أخرى: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46]. اهـ.

.التفسير المأُثور:

قال السيوطي:
{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)}.
أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن مسعود، أنه قرأ: {فإن الله لا يهدي} بفتح الياء {من يضل} بضم الياء.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن الأعمش قال: قال لي الشعبي: يا سليمان، كيف تقرأ هذا الحرف؟ قلت {لا يهدي من يضل} فقال: كذلك سمعت علقمة أنه كان يقرأ: {لا يهدي من يضل}.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر، عن علقمة أنه كان يقرأ: {لا يهدي من يضل}.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن إبراهيم، أنه قرأ: {لا يهدي من يضل}.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف {فإن الله لا يهدي من يضل}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {فإن الله لا يهدي من يضل} قال: من يضله الله لا يهديه أحد.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به والذي أرجوه بعد الموت، أنه لكذا وكذا. فقال له المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت فأقسم بالله جهد يمينه: لا يبعث الله من يموت. فأنزل الله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} الآية.
وأخرج ابن مردويه عن علي في قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} قال: نزلت فيّ.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال: «قال الله: سبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني. فأما تكذيبه إياي فقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} وقلت: {بلى وعدًا عليه حقًا} وأما سبه إياي فقال: {إن الله ثالث ثلاثة} وقلت {هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {ليبين لهم الذي يختلفون فيه} قال: للناس عامة، والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
قوله تعالى: {أَنِ اعبدوا الله} يجوز في {أَنْ} أَنْ تكونَ تفسيريةً؛ لأن البَعْثَ يتضمَّن قولًا، وأن تكونَ مصدريةً، أي: بَعَثْناه بَأَنِ اعْبُدُوا.
قوله: {مَّنْ هَدَى} و{مَّنْ حَقَّتْ} يجوزُ أنْ تكونَ موصولةً، وأن تكون نكرةً موصوفةً، والعائدُ على كلا التقديرينِ محذوفٌ من الأولِ.
وقرأ العامَّةُ {إِن تَحْرِصْ} بكسرِ الراء مضارعَ حَرَص بفتحِها، وهي اللغةُ العاليةُ لغةُ الحجاز، والحسن وأبو حَيْوة {تَحْرَصُ} بفتح الراء مضارعَ حَرِص بكسرِها، وهي لغةُ لبعضِهم، وكذلك النخعي، إلا أنه زاد واوًا قبل {إنْ} فقرأ: {وَإنْ تَحْرَصْ}.
قوله: {لاَ يَهْدِي} قرأ الكوفيون {يَهْدِي} بفتح الياء وكسرِ الدالِ، وهذه القراءةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون الفاعلُ ضميرًا عائدًا على الله، أي: لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه، ف {مَنْ} مفعولُ {يَهْدِي} ويؤيده قراءةُ أبي: {فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ ولِمَنْ أضلَّ}، وأنه في معنى قولِه: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186].
والثاني: أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ، أي: لا يَهْدِيْ المُضِلَّون، و{يَهْدِي} يجيءُ في معنى يهتدي. يقال: هداه فَهَدَى، أي: اهتدى، ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبد الله: {يَهْدِي} بتشديدِ الدالِ المكسورةِ، فَأَدْغم، ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاء على الإِتباع، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس، والعائدُ على {مَنْ} محذوفٌ: {مَن يُضِلُّ}، أي: الذي يُضِلُّه اللهُ.
والباقون: {لا يُهْدَى} بضمِّ الياء وفتحِ الدالِ مبنيًا للمفعول، و{مَنْ} قائمٌ مَقامَ فاعِله، وعائدُه محذوفٌ أيضًا.
وجَوَّز أبو البقاء في {مَنْ} أن يكونَ مبتدأً و{لا يَهْدِي} خبره، يعني: مقدَّمٌ عليه، وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلًا رافعًا لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو: زيدٌ لا يَضْرِبُ، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل.
وقُرِئ {لا يُهْدِيْ} بضمِّ الياء وكسرِ الدالِ. قال ابن عطية: وهي ضعيفةٌ، قال الشيخ: وإذا ثَبَتَ أنَّ {هَدَى} لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم، فالمعنى: لا يُجْعَلُ مهتديًا مَنْ أضلَّه اللهُ.
وقوله: {وما لهم} حُمِلَ على معنى مَنْ، فلذلك جُمِعَ.
وقُرِئ {مَنْ يَضِلُّ} بفتحِ الياء مِنْ {ضَلَّ}، أي: لا يَهْدي مَنْ ضَلَّ بنفسِه.
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ} ظاهرُه أنه استئنافٌ خبرٍ، وجعله الزمخشريُّ نَسَقًا على {وقال الذين أشركوا} إيذانٌ بانهما كَفْرتان عظيمتان. قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} هذان منصوبان على المصدرِ المؤكَّد، أي: وَعَدَ ذلك، وحَقَّ حقًا، وقيل: {حقًا} نعتٌ ل وَعْد، والتقدير: بلى يَبْعثهم وَعَدَ بذلك، وقرأ الضحاك: {وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ} برفعِهما على أنَّ وَعْدًا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: بلى بَعْثُهم وَعْدٌ على الله، وحَقٌّ: نعتٌ ل: وعدٌ.
قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ} هذه اللامُ متعلقةٌ بالفعلِ المقدَّرِ بعد حرفِ الإِيجاب، أي: بلى يَبْعثهم لِيُبَيِّنَ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
لم يُخْلِ زمانًا من الشرع توضيحًا لحجته، ولكن فرَّقهم في سابِق حُكْمِه؛ ففريقًا هداهم، وفريقًا حَجَبَهم وأعماهم.
{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)}.
ألزمهم الوقوفَ على حدِّ العبودية في إرادة هدايتهم ومعرفتهم حقائق الربوبية فقال: إنك وإنْ كنتَ بأمرنا لك حريصًا على هدايتهم؛ فإن من قَسَمْتُ له الضلالَ لا يجري عليه غيرُ ما قَسمْتُ له.
ويقال لمن ألبستُه صدارَ الضلال لا تنزعه وسيلةٌ ولا شفاعة.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)}.
القَسَمُ يؤكِّد الخبرَ، ولكنَّ يمينَ الكاذب توجِب ضَعْفَ قوله؛ لأنه كلما زاد في جحد الله ازداد القلبُ نفرةً.
{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)}.
إذا بيَّن الله صِدْقَ ما ورد به الشرع في الآخرة بكشف الغيب زاد افتضاحُ أهل التكذيب فيكون في ذلك زيادةٌ لهم في التعذيب. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله} [36]. قال: العبادة زينة العارفين، وأحسن ما يكون العارف إذا كان في ميادين العبودية والخدمة، يترك ما له لما عليه. اهـ.

.تفسير الآيات (40- 42):

قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين تحتمه وحكمته، بين إمكانه ويسره عليه وخفته لديه، فقال تعالى: {إنما قولنا} أي بما من العظمة {لشيء} إبداء وإعادة {إذا أردناه} أي أردنا كونه {أن نقول له} ثم ذكر محكى القول النفسي فقال: بانيًا من كان التامة ما دل على موافقة الأشياء المرادة موافقة المأمور للآمر المطاع-: {كن} أي أحدث {فيكون} أي فيتسبب عن ذلك القول أنه يكون حين تعلق القدرة به من غير مهلة أصلًا، فنحن خلقنا الخلق لنأمرهم وننهاهم.
ولما كان التقدير تفصيلًا لفريقي المبين لهم وترغيبًا في الهجرة لأنها بعد الإيمان أوثق عرى الإسلام: فالذين كفروا واغتروا بما شاهدوه من العرض الفاني لنخزينهم في الدنيا والآخرة ولنجازينهم بجميع ما كانوا يعملون، عطف عليه قوله تعالى: {والذين هاجروا} أي أوقعوا المهاجرة فرارًا بدينهم فهجروا آباءهم وأبناءهم وأقاربهم من الكفار وديارهم وجميع ما نهوا عنه {في الله} أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال، بعدما تمادى المكذبون بالبعث على إيذائهم، فتركوا لهم بلادهم.
ولما كانت هجرتهم لم تستغرق زمان البعد لموت بعض من هجروه وإسلام آخرين بعد احتمالهم لظلمهم ما شاء الله، قال تعالى: {من بعد ما ظلموا} أي وقع ظلمهم من الكفار، بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الظلم لا كونه من معين {لنبوئنهم} أي نوجد لهم منزلًا هو أهل لأن يرجع إليه، بما لنا من الملائكة وغيرهم من الجنود وجميع العظمة {في الدنيا} مباءة {حسنة} كبيرة عظيمة، جزاء لهم على هدمتنا، بأن نعلي أمرهم وإن كره المشركون، كما يراه من يتدبر بمعني لأوليائي على قلتهم، وسينكشف الأمر عما قريب انكشافًا لا يجهله أحد، فالآية دليل على ما قبلها.
ولما كان التقدير: ولنبوئنهم في الآخرة أجرًا كبيرًا، عطف عليه قوله تعالى: {ولأجر الآخرة} المعد لهم {أكبر} مما جعلته لهم في الدنيا {لو كانوا يعلمون} أي لو كان الكفار لهم بجبلاتهم علم بأن يكون لهم عقل يتدبرون به لعلموا- بإحساني إلى أوليائي في الدنيا من منعي لهم منهم في عنادهم مع كثرتهم وقلتهم، وإسباغي لنعمي عليهم لاسيما في الأماكن التي هاجروا إليها من الحبشة والمدينة وغيرهما مع اجتهادهم في منعها عنهم- أني أجمع لأوليائي الدارين، وأن إحساني إليهم في الآخرة أعظم- روي أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهم- كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكثر وأفضل- ثم تلا هذه الآية.
ولما نبه على إحسانه إليهم، وكان فيه من أول الأمر نوع غموض لظهور الكفرة في بادي الرأي، وصفهم بما يحتاج إليه في الاستجلاب لتمامه حثًا وإلهابًا، فقال تعالى واصفًا للمهاجرين بيانًا لأصل ما حملهم على ما استحقوا به هذا لأجر الجزيل: {الذين صبروا} أي استعملوا الصبر على ما نابهم من المكاره من الكفار وغيرهم في الإقامة بين أظهرهم مدة ثم في الهجرة بمفارقة الوطن الذي هو حرم الله المشرب حبه لكل قلب، فكيف بقلوب من هو مسقط رؤوسهم ومألف أبدانهم ونفوسهم، وفي بذل الأرواح في الجهاد وغير ذلك، ولفت الكلام إلى وصف والإحسان تنبيهًا على ما يحمل على التوكل فقال تعالى: {وعلى ربهم} أي المحسن إليهم بإيجادهم وهدايتهم وحده {يتوكلون} في كل حالة يريدونها رضى بقضاء الله تعالى. اهـ.